.
.
يجلس في هدوئه القديم , يرتشف القهوة من ذلك الفنجال نفسه. أخبرني مرة أنه كان يصحب هذا الفنجال معه في كل اسفاره , قهوة فرنسية , تركية , إيطالية , آيرلندية , عربية , قل ما شئت , كل ما يخطر على بالك , كلها مرت على هذا الفنجال العتيق!
فنجاله من فئة الفناجيل الكبيرة , حتى انني اخبرته مرة ممازحا , أن فنجالك هذا يحتاج لزيادة ملي ليتر واحد فقط ويصبح بعدها من فئة القدور الصغيرة , ويمكنك بعدها ان تستخدمه في الطبخ , وربما غسيل الملابس ! , لكنه لم يضحك يوما على هذه المزحه !
سألته : هل تؤمن بقراءة الفنجال ؟ , فقال : كإيماني بقراءة الصحف اليومية !.
مر عام على آخر لقاء لي به , إذ لم تتعد معرفتي به السلام وتقبيل رأسه , فهو شيخ كبير , ووالد لأحد أعز أصدقائي. وأنا في الحقيقة لم أكن أحب اللقاء به كثيرا , إذ أن وجوده كان يشعرني بقليل من الرهبة , وكلما نظر في عيني , يتملكني شعور بأنه يقرأ ما في قلبي ! , خصوصا بعدما علمت منه أنه يقرأ الفنجال كقراءته للصحف , فلابد من أنه يقرأ العيون كقراءته لمجلة قديمة قرأها ألف مرة !
وفي يوم من أيام الصيف الطويلة , مررت بجانب بيتهم , وتعمدت الوقوف خارجا بإنتظار ابنه أحمد , وبعد دقيقة من الوقوف خارجا , سمعت صوته : أقلط ! , إلتفت لأجده جالسا على كرسي خارج البيت , فذهبت إليه مهرولا وانا اتعثر بكلمات الإعتذار لعدم سلامي عليه , وأني لم أره أصلا ! , فأبتسم وعاد ليغوص وسط الصحيفة التي في يده , ويرتشف بين الحين والآخر رشفة من فنجاله الذي لا ينتهي أبدا!
تلك الحادثة رسخت في ذهني فكرة ان هذا الرجل ليس الا ساحرا , فأنا أكاد أقسم أنه لم يكن جالسا حين اتيت اول الأمر , وما أظنه الا نزل من السماء , لأن باب البيت كان مقفلا وبقي مقفلا إلى حين مجيء أحمد أبنه ليفتحه من الداخل. لكني لم أفاتح أحمد بهواجسي هذه , وبقيت على علاقة طيبة به , إلى أن جاء اليوم المشؤوم!
كانت تمر بجانب الساحة التي نلعب فيها في كل يوم تقريبا , وكنت أنا أمر بجانب مطبخ بيتهم كل يوم خمس مرات , لأراها تتصنع الحاجات تصنعا , وانا اسمع صوت امها وهي تطردها من المطبخ لكي لا تلهيها عن عملها ! . كانت سمراء , طويلة , وتملك إبتسامة ساحرة , حين رأيتها أول مرة توهمت أنها تكبرني بخمس سنين , فأكتشفت لاحقا أنها لا تسبقني الا بسنة واحدة , والحب كفيل بهذه السنة!
حاولت ألف مرة أن اسرق منها ولو نظرة خاطفة , الا ان انظارها كانت دوما ناحية أحمد صديقي , وأنظار أحمد كانت على أختها التي تكبرنا بثلاثة سنين. وكوني جديد على العشق , ذهبت بعدما أضناني السهر خمس ليال كاملة , إلى المكتبة العمومية , فقرأت كلما تيسر من الكتب , والتي لم تتعد الثلاث كتب , في موضوع الحب والغرام , لكني لم اصل لنتيجة !
وفي يوم من الأيام الماطرة , كنت جالسا في البيت , بأمر من والدتي , كي لا أبتل , وسمعت حديثا بينها وبين احدى زوارها من النساء , عن ساحر يمكنه ان يسلب القلوب ويميلها كيفما يشاء, فقفزت صورة والد أحمد إلى مخيلتي , لكنه هذه المرة كان طائرا على عكازته السحرية , حاملا فنجاله الكبير في يده اليمنى , وصحيفته العتيقه في يده اليسرى , فقررت قراري المشؤوم الأول في حياتي , وهو انني ارغب بحبها بأية طريقة كانت!
كان أحمد هو وسيلتي الوحيدة لأصل إلى قلب حبيبتي عن طريق والده.
ذهبت إليه وأخبرته بما في قلبي قائلا:
أحمد .. أنا اعلم ان والدك يقرأ الفنجال بسهولة ويسر كما يقرأ الصحف , وانه يتعامل مع الجن , ويطير على عكازته السحرية .. وأريده أن يساعدني لأكسب قلب حبيبتي ..!!
فقال :
لكن أبي أمي .. !! ولا يعرف القراءة ..!!
اذا ماذا يفعل بهذه الصحيفة كل يوم ..؟!
ينظر إلى الصور .. !
.
.
مرت سنتان .. افترقت فيهما عن احمد , وعن حبيبة القلب , ولكني كنت أمر امام باب بيت احمد أحيانا , لأجد الشيخ الكبير وفنجاله الكبير , وصحيفته الصفراء , ونظراته الهادئة , فأشعر بالقشعريرة , وأحس أنه يقرأ روحي ..!!
.
.
أحداث هذه القصة مبنية على أحداث غير واقعية :) .. واللي يبي يقرا فنجاله ترا البنغالي اللي عندنا بالدوام يقول انه مستعد يقراه بنص دينار , وانا آخذ تسع دنانير ونص عمولتي .. :)